خبر خير – فاطمة رشاد
غدا اليمنيون اليوم رافضين لكل ما يمكن أن يذكِّرهم بروائح البارود التي تُذكي حالة الصراع المستعرة في البلاد منذ أعوامٍ.
وفي مجالس اليمنيين وأفراحهم وحفلاتهم يحضر الفلُّ الأبيض البهيج ورائحته العطرة ليزين هذه المناسبات بعبق الروائح الذكيَّة، ويسترسل لونه الأبيض ليضفي على المكان السلام.
مزارع الفل
يُزرع الفلُّ في جنوب وغرب اليمن في محافظتي لحج والحديدة تحديدًا، ثم ينقل إلى أسواق الحراج (بورصة الفل) وبعد عملية تقييم المنتج بين تجار الفل يُوزَّع على مسوِّقي الفل الذين بدورهم يقومون بإيصاله إلى الأسواق في المدن، خصوصًا إلى عدن وصنعاء ومحافظات يمنية أخرى.
توجد مزارع الفل في محافظة لحج ومحافظة الحديدة، ويعد الفلُّ اللحجي أجود أنواع الفل في اليمن لما يمتاز به من رائحة قوية تدوم لأوقات طويلة.
عبود عواس (مالك مزرعة للفل) يقول لموقع “خبر خير”: “نحن أسرة توارثنا زراعة الفلِّ والكاذي منذ عقود، نزرع ثلاثة فدادين، فدان ونصف لزراعة الفل ومثلها لزرعة الكاذي والمشموم.
يضيف عواس” يَدرُّ علينا الفلُّ في بعض الأيام 30 ألف ريال يمني، وفي أيام أخر يصل مردود الفل إلى 125ألف ريال أي ما يعادل 135 دولارًا فكلما زاد محصول الفل وزاد الطلب عليه كان الدخل جيدًا، والأسعار تخضع للعرض والطلب في السوق”.
وفي أثناء تجوّلنا في محافظة لحج التقينا بالعم “يسلم علي” وهو يحمل قبوات الكاذي بين يديه ويستوقفنا ليقول لنا بصوته المبحوح: “هذا هو التراث القمنداني أحمله بين يدي وهذه الرائحة لا يمتلكها إلَّا كاذي لحج”.
يروِّج “يسلم علي” الكاذي في سوق لحج، وهو الكاذي الذي اعتنى به طول العام ليبيعه في سوق الفل.
ويطالب العم “يسلم” الدولة والجهات المعنية بالاهتمام بمزارع الفل والكاذي، ويقول: “نعاني من عدم اهتمام المختصين بنا، ونريد أن يُقدَّم لنا الدَّعم لكي نطوِّر من زراعة الفل والكاذي لما فيه من مردود جيد، ليس على المستوى الشخصي بل إن عائداته ممكن أن تنعش الاقتصاد المحلي”.
بورصة الفل
يتحدث حلمي أحمد عبد الله (عاقل سوق الفل في لحج) لموقع “خبر خير” عن عملية التفاوض وساعة المزاد عند بيعهم الفل، فيقول: “الثقافة اللحجيَّة ترتبط بالفل وهو ما تمتاز به محافظة لحج فحين تُذكر لحج يتبادر إلى المخيلة الفلُّ اللجي”.
يواصل عاقل السوق حديثه بعد أن حسم عملية البيع بين تجار الفل والمزارعين قائلاً: “مدينة الحوطة عاصمة محافظة لحج هي من تُجمِّع بائعي الفل وتوابعه والمزارعين في أسواق مزاد الفل”.
ويضيف عاقل السوق: “هنا يجتمع كلُّ البائعين، كل ٌّيعرض فله ثمَّ يجري البيع. ويواجه المزارعون والبائعون صعوبات في عملهم، ولكن حقيقة مشكلات مزارعي الفل لا تقل عن مشكلات بائعي الفل، إذ تتركز الصعوبات التي تواجه مزارعي الفل في مادة الديزل التي يحتاجون إليها من أجل تشغيل مضخات المياه التي تسقي أشجار الفل، بالإضافة إلى عدم تمكنهم من الحصول على الشتلات بأسعار رخيصة، وكذلك غلاء المبيدات الحشرية التي يحتاج إليها المزارع للحفاظ على محصوله من الفل، وأحيانًا انعدامها “.
ويقول: “من أبرز المشكلات التي تواجهنا في السوق هي زيادة كمية عرض الفل على الطلب، الأمر الذي يصعب من عملية التسويق”.
عبقٌ في الطرقات
يتناهى إلى مسامعنا صوت “محمد صالح” وهو ينادي في الطريق (فل)، (فل)، ليدللَّ على أكاليل الفل التي يحملها.
يتحدث محمد 17 عامًا لـ”خبر خير” عن تجربته في بيع الفل قائلًا: “أنا طالب في مرحلة الثانوية العامة ولكني أعمل في بيع الفل منذ ثلاث سنوات آخُذُه من أحد الباعة في محافظة عدن الذين يجلبونه من محافظة لحج لبيعه في عدن وأقف في الشوارع أبيع الفل”. ويؤكد محمد أنَّ بيع الفل وفَّر له فرصة عمل ساعدته على تحسين وضعه المعيشي.
يعمل آلاف من اليمنيين في زراعة وبيع الفل، لذا يستوجب الاهتمام بهذه الشجرة وزيادة مساحة زراعتها وتوفير احتياجات المزارعين للاستمرار في زراعة أجود شتلات الفل (الغرس) وتوابعه.
يقول جلال سالم (مهندس في الإرشاد الزراعي): “تقدر المساحة المزروعة فُلًّا في محافظة لحج بــ 80 فدانًا أو 100 فدان وهذه المساحة في ازدياد مستمر”.
ويؤكد جلال أن عدد مزارعي الفل يقدر ما بين 150 إلى 200 مزارع، ويمكن زراعة 500 شتلة تقريبًا للفدان الواحد، والمسافة ما بين الشتلة والشتلة الأخرى متران على الخط الواحد ومتران بين الخطوط، ويبدأ غرس الفل من بداية سبتمبر إلى شهر مارس”.
ويوضح المهندس جلال أن فترات الري للفل عند الغرس هي أسبوع ثم تزيد بحسب عمر الغرسة، وإنتاجية الفل تبدأ في الازدياد من شهر مارس حتى تصل أعلى مستوياتها وتستمر إلى شهر سبتمبر ثم تبدأ بالانخفاض مع انخفاض درجات الحرارة، وتكاد تكون قليلة جدًا خلال شهر نوفمبر وديسمبر وبداية يناير إلى شهر مارس ثم تعود بالارتفاع مرة أخرى”.
وقال: “إن الكاذي لا يزرع بدرجة أساسية في لحج وإنما يزرع على جوانب قنوات الري وعلى مسافة خمسة أمتار تقريبًا بين الشجرة والأُخرى بطريقة الفسائل مثله مثل النخيل”.
ومحافظة عدن هي المحافظة التي يكثر فيها بائعو الفل، وذلك بسبب إقبال الناس عليه، وكونها سياحية، ويكثر فيها الزوار من المحافظات الأُخرى الذين تجذبهم رائحة الفل.
العطر الفُلي
صانعة العطور المطبوخة أم سامي تقول: “يَجذبني عطر الفل الذي يدخل في كثير من طبخات البخور والزباد والأخضرين وكثير من الوصفات العطرية، كونه يتمتع برائحة ذكيَّة ومميزة”.
وكثير من النساء يُحببن رائحة الفل ويفضلنها في العطر المطبوخ والبخور، لهذا تركز بائعات البخور والعطور على جعل هذا العطر أحد أساسيات العطر المطبوخ والبخور.
شكُّ الفل فنٌ
وبين الشكِّ (جمع زهرات الفل بخيط محبوك) بطرق فنيَّة تتعدد أسماء عقود الفل التي منها : الشردخة والجرز، والتاج والتعقيدة، هذه اللوحات الجميلة تشكلها أيادٍ تمرست على جمع زهور الفل برقة.
ويوكِّد كلٌ من طلال سعيد (بائع فلٍّ في عدن منذ13عامًا)، وعمار محمد (الذي يعمل في المهنة نفسها منذ 18عامًا) “أن الفلَّ اللحجي يمتاز برائحته النفاذة والثابتة، وهذا النوع من الفلِّ يأخذه المسافرون في الطرق البريَّة وينقلونه إلى المحافظات المجاورة كونه لا يذبل ولا يتغير لونه فيما إذا حُفظ بطريقة صحيحة”.
وقال: “إن أسعار الفلِّ في فصل الصيف تصل إلى 200أو300 ريال للوار الواحد خلاف فصل الشتاء الذي تزداد فيه أرباح بائعي الفلّ حيث يبلغ سعر وار الفل في فصل الشتاء 1000 ريال وقد يصل إلى 2000 ريال؛ أي من دولار إلى دولارين”.
زينة كل المناسبات
لا تُقام أيُّ مناسبة في اليمن إلَّا والفل حاضر فيها، هذا ما توكِّده أم نوران التي تقف أمام بائع الفلِّ لتأخذ بعض أشكال فلِّ الشردخة (تعقيدة الرأس) من أجل الزواج العائلي الذي ستحضره، وسعر الكمية التي أخذتها من الفل هو30 ألف ريال يمني.
من جهته قال وكيل مكتب الزراعة والإرشاد: “إن الفل والكاذي يزرعان في مساحات صغيرة لكن مردودهما كبير فهما أفضل من المحاصيل الأخرى من حيث قدرتهما على احتمال الجفاف وتجاوزه للحشائش”.
وأضاف: “أرباح الفل والكاذي هي مردود للفرد لهذا نحن لا نتدخل كثيرًا في مشكلات المزارعين لأن عاقل السوق هو من يحلها، كما أنهم لا يأتون إلينا لعرض الصعوبات التي تواجههم، ويأتون لأجل الشتلات والأسمدة فقط”.
يقول الناس في لحج إن الأمير القمندان هو أول من جلب شجرة الفلِّ إلى اليمن عند عودته من الهند. هذه الوردة البيضاء رمز النقاء ورائحتها النفاذة سلبت قلب القمندان ودفعته إلى أن يأخذها معه إلى اليمن؛ كي تزين أرض لحج الخضيرة.
وما أن تُذكر أزهار الفلِّ والكاذي حتَّى تستحضر الذاكرة الغناء اللحجي الأصيل وأشعار الأمير القمندان وشعراء وفنانين آخرين تغنَّوا بالفلِّ زينة النساء والرجال الذي يكون حاضرًا في كل المناسبات اليمنيَّة. عروس وزفة وأغنية فيصل علوي التي يقول في مطلعها ” يا ورد يا كاذي… يا فل يا نادي قل لي ليالي الوصل هل باتعود” التي ترقص عليها العروس وتُنثر عليها حباتُ الفلِّ هي تراث ماضينا وحاضرنا الجميل. حضور الفل ساحرٌ بديع يرسم في مآقي الحاضرين نظرات الفرح، حيث يُكلل عنق العروس دائمًا بجرز الفل الملكي وتتناهى كلمات الأشعار التي تطرز بالفل في الأغاني اليمنيَّة كأُغنية الفنان عطروش التي يقول في مطلعها ” رحنا إلى البندر في شهر نيسان… نشتي نبيع الفل لكل ولهان”.
LEAVE A COMMENT